خالد بن حمد الرواحي
في ظل التحديات المالية المتزايدة، تبرز الرقابة الخارجية كأداة لضبط الأداء المالي وتعزيز الشفافية والمساءلة. لم تعد الرقابة مجرد تدقيق حسابي، بل أصبحت ركيزة لضمان استدامة الموارد وتحقيق الحوكمة الفعالة.
تشير الدراسات إلى أن الدول التي تعتمد أنظمة رقابية صارمة تحقق مستويات امتثال مالي أعلى، مما يسهم في تحسين الاستدامة المالية وكفاءة إدارة الموارد. كما أوضح تقرير منظمة الشفافية الدولية (2024) أنَّ الجمع بين الرقابة الخارجية وتقييم الأداء الداخلي يعزز الامتثال المالي بنسبة 25%.
التجارب الدولية تثبت ذلك. في سنغافورة، نجح ديوان المحاسبة في تحقيق انضباط مالي وتقليل الإنفاق غير الضروري، مما مكّن الحكومة من توجيه الموارد نحو مشروعات تنموية ذات أولوية. كما أن النماذج الأوروبية أثبتت أن الرقابة الخارجية تعزز الاستثمارات العامة وتوفر بيئة اقتصادية أكثر شفافية واستدامة.
لكن رغم أهميتها، تواجه الرقابة الخارجية تحديات تعيق فعاليتها، من أبرزها تداخل المصالح والعلاقات الشخصية التي قد تؤثر على نزاهة عمليات التدقيق. كما أن البيروقراطية المعقدة، ونقص الكفاءات، وتأثير العوامل السياسية تحدّ من استقلالية الأجهزة الرقابية. بالإضافة إلى ذلك، فإنَّ عدم التزام المؤسسات الحكومية بتنفيذ توصيات التدقيق يضعف من تأثير الرقابة، حيث تبقى المخالفات المالية قائمة دون إجراءات تصحيحية. ويؤدي ضعف التنسيق بين الأجهزة الرقابية المختلفة إلى ازدواجية الجهود وإضعاف التأثير.
ولتجاوز هذه العقبات، يجب الاستثمار في تأهيل الكوادر الرقابية عبر برامج تدريب متخصصة، وتحديث القوانين لضمان استقلالية المدققين، واستخدام التكنولوجيا الحديثة في التدقيق. فمثلاً، يمكن للذكاء الاصطناعي وتحليل البيانات الضخمة أن يساعدا في كشف التجاوزات المالية بسرعة ودقة، مما يُعزز قدرة الرقابة على التصدي للفساد المالي بكفاءة أكبر.
إلى جانب تحسين الأداء المالي، تُسهم الرقابة في تعزيز الحوكمة المؤسسية وزيادة ثقة الجمهور في التقارير المالية. إنَّ تعزيز الثقافة الرقابية داخل المؤسسات يضمن شفافية الميزانيات وانضباط القرارات المالية، مما يؤدي إلى إدارة مالية أكثر كفاءة واستدامة.
لكن الرقابة الخارجية وحدها لا تكفي. لتحقيق إصلاح مالي شامل، يجب أن تكون جزءًا من منظومة رقابة متكاملة تعتمد على التكنولوجيا الحديثة والاستقلالية التامة، وتعتمد على تعاون فعّال بين الرقابة الداخلية والخارجية لضمان الامتثال الكامل للمعايير المالية. إن الحكومات التي تفهم أنَّ الرقابة ليست مجرد إجراء تصحيحي، بل أداة استراتيجية لضمان الشفافية والعدالة المالية، ستكون أكثر قدرة على مواجهة التحديات وتعزيز ثقة المجتمع والمستثمرين في نظامها المالي.
وعلى الصعيد الوطني، لا بد من الإشادة بالدور الكبير الذي يقوم به جهاز الرقابة المالية والإدارية للدولة في تعزيز المساءلة المالية وضمان الامتثال لأعلى معايير الشفافية والحوكمة. وقد أسفرت جهود الجهاز خلال عام 2023 عن استرداد 177.7 مليون ريال عُماني لصالح الخزانة العامة، بما في ذلك 95 مليون ريال تم تحصيلها خلال العام نفسه. كما تعامل الجهاز مع 115 قضية مالية، شملت الرشوة، والاختلاس، وإساءة استعمال الوظيفة، واستغلال المنصب لتحقيق منافع شخصية، في إطار حرصه على حماية المال العام.
كما نفذ الجهاز 187 مهمة رقابية، وأصدر 185 تقريرًا رقابيًا متضمنًا 2682 ملاحظة، مما يعكس حجم الجهود المبذولة لضمان الامتثال المالي والإداري. هذه الإنجازات تؤكد الدور الفعّال للجهاز في تحقيق الاستدامة المالية، بما يتماشى مع الأهداف الاستراتيجية لرؤية عُمان 2040، التي تسعى إلى تحقيق كفاءة الإنفاق الحكومي وتعزيز الأداء المؤسسي.
تحقيق الاستقرار المالي يتطلب منظومة رقابية مُتكاملة تعتمد على التكنولوجيا الحديثة والاستقلالية التامة، مع الالتزام بتطبيق سياسات مالية شفافة تضمن الاستخدام الأمثل للموارد العامة وتعزز الثقة في المؤسسات المالية. فبدون رقابة متطورة ومستقلة، ستظل التحديات المالية قائمة، لكن بالإرادة الحقيقية والتطوير المستمر، يمكن ترسيخ أسس مالية قوية تضمن التنمية والاستدامة للأجيال القادمة.